الصيدلة في مصر!!!!

هناك نوعان من الزبائن المرضى أستقبلهم في الصيدلية.. مَن يأتي حاملا روشتة لصرف أدوية كتبها أحد الأطباء، وآخر بلا روشتة يأتي لطلب علاج بعينه، وأغلب هؤلاء إما مرضى بأمراض مزمنة كالسكر والضغط وأمراض القلب، أو من يرغب في مسكنات أو علاج للبرد أو أي حالة عَرضية لا تستدعي الذهاب للطبيب.. والسِّمة المشتركة بين النوعين أن 99% منهم لا يرضون بديلا للدواء الذي يطلبونه!... فما لاحظته يتكرر بطريقة غريبة، ذاك أن كلمة "بديل" لها أثر مُفزع في سمع ونفس المريض! وكأنك ستخدعه وتعطيه بدلا من البديل للدواء مادة سامة على سبيل المزاح!.. ومهما حاولتُ إقناعَهم أن الدواء المكتوب والبديل كليهما يحمل نفس المادة الفعالة، ولهما نفس التأثير فلن يقتنع أبدا، بل ربما ظن أنك لا تريد سوى أن تبيع ما عندك من دواء فقط!.. الأكثر غرابة أن بعض البدائل يكون أفضل من الأدوية الموصوفة من حيث حركية الدواء كالامتصاص وتأخُّر تكسرها بالدم، أي أنها تعطي تأثيرا أفضل وفعاليتها تكون أفضل مما يطلبه المريض في روشتته، لكنه رغم ذلك يصر على ما وصفه الطبيب وكل نظراته لك غارقة في الريبة والشك!.. قليل منهم يقتنع بما تحاول إقناعهم به، لكن الواحد منهم يمسك بالعلبة ويقارن حروف المادة الفعالة في كل منهما حتى يتأكَّد أنك لا تخدعه ويرفع نظره بين حرف وآخر في نظرة اختبار لك!..
كثير من الروشتات تأتيني فأجد أدوية موصوفة لمريض تشي هيئته المتواضعة بحالة اقتصادية ليست جيدة وأجد أدوية باهظة السعر ولن يستطيع تحمل تكلفتها في حين أن الطبيب لابد من أنه لاحظ ذلك جيدا وكان من الممكن أن يكتب له دواءً آخر بنفس الفعالية لكنه أقل في السعر كثيرا.. فأحيانا حتى لو توفَّر لدي ما يطلبه المريض من دواء -ولاحظت تواضع حاله- أخبره أن بإمكاني أن أصرف له الروشتة كما هي وستكلفه مبلغا باهظا وبإمكاني أن أعطي له نفس الأدوية بنفس فعاليتها ولكن بثمن أقل بكثير وأترك له حرية الاختيار..

في أحد المواقف التي على نفس الشاكلة أتى رجل يمد لي يده بروشتتين إحداهما من طبيب باطني حيث يعاني من نزلة معوية وأخرى من طبيب نفسي يصف له دواءً لعلاج الاكتئاب وهو المرض الذي يعاني منه معظم المصريين جراء ما يتكالب عليهم من كوارث هذه الأيام المجيدة!..
أخذ يسألني عن سعر أدوية النزلة المعوية ولاحظت ارتباكه قليلا فأخبرته أن بإمكانه تناول بديلا أرخص فأشرق وجهه لذلك.. وعندما وقع نظري على الدواء الذي تفضَّل الطبيب النفسي بوصفه له أخذتني الصدمة قليلا.. فهذا الدواء ليس غالي الثمن فحسب بل سعره فلكي يُحلِّق مع الأجرام السماوية!... فسعر علبة الدواء يبلغ 540 جنيها أي مرتب مدير عام حكومي!.. أخذت أسأل المريض عن شكواه لمعرفة درجة الاكتئاب لديه فوجدته يتجاوب معي ويبتسم بل وعندما ألقيت إحدى الدعابات ضحِك وتفاعل معها وهو ما يشي بدرجة اكتئاب بسيطة لا تستدعي بالتأكيد ما وصفه من علاج فتَّاك!.. وتحرجت من إخباره بسعر الدواء وأخبرته أن لديّ بدائلَ أصلح وأرخص لكنه طلب معرفة السعر فتنحنحت قليلا ثم توكلت على الله وقد ابتعدت قليلا عن الريون الزجاجي..: 540 جنيه حضرتك".. ابتسم ابتسامة عريضة وردد بذهول خلفي: "540 إيه بالظبط حضرتك"؟!.. شعرت بالخجل وتنحنحت مجددا مجيبة أنه 540 جنيها.. عندها أصابني الرعب لدى رؤية ملامحه وترنُّحَهُ ومراحل الصدمة التي بدأت تتبلور داخله!.. وكان أول ما قاله هو السبّ، ثم تساءل مستنكرا عن السبب الذي دفع الطبيب لوصف هذا الدواء!.
أخبرتُه أنه بإمكانه استخدام البديل لو أراد فطلب مني الانتظار لنصف ساعة ريثما يعود للطبيب لـ"يتفاهم معه" -على حد تعبيره!!... أخذت أسترجع ملامحه وأتعجب مما حدث؛ فوضعه الاقتصادي ظاهر للعيان ومن المؤكد أن الطبيب لاحظه فلماذا يصف له علاجا باهظ التكاليف هكذا حتى على مريض ميسور الحال مع أنه من المفترض لعلاج الاكتئاب! وبذلك سيزيد حالة الاكتئاب لديه! بل ربما انتقل لمرض نفسي آخر كالعصاب أو الذهان!
وعلى نفس التنويع، عندما تقوم الشركة المنتجة بتغيير شكل العبوة كنوع من التجديد فإن ذلك يعتبر مأساة وكارثة للصيادلة حيث إن المريض لا يصدقك عندما تخبره أن شكل علبة الدواء قد تغيَّر!.. بل ويصر على أنك تريد التلاعب به لتعطيه دواءً آخر رغم أنفه!.. وعبثا تحاول إقناعه وتقسم له على أن الشركة هي التي غيرت شكل العبوة لكنك في أغلب الحالات لن تحظى بشيء سوى بنظراتٍ متشككة وكثيرٍ من الهمهمة!
وكعادة الصراع الأبدي بين الأطباء والصيادلة يصر الطبيب على الدواء حينما يرى الصيدلي يقترح بديلا له معلنا أننا لا نفقه شيئا! ويصر الصيدلي على أن هناك بدائل أخرى ربما تكون أفضل في امتصاصها وسرعة المفعول وقلة الآثار الجانبية لها عن الدواء المكتوب خاصة لو كان الدواء أغلى لمجرد أن الشركة المنتجة أكثر جشعا أو لأنه يحظى بدعاية جيدة.. وهكذا تستمر دوامة البديل للأبد، يظل المريض متشككا دائما، خاصة بعد أن حمّله الطبيب بكل النصائح الممكنة عن عدم قبول أي بديل وتصل النصائح لحد التهديد والترويع!.. وأحيانا يصف له دواءً نادرًا رغم عشرات البدائل ليظل المريض ينتقل من صيدلية لأخرى في معاناة الوصول للدواء الموصوف ليكون الخاسر الوحيد في الأمر هو المريض

0 comments: